المنارة 7|| "التاريخ يكتبه المنتصرون": هل هذا القول صحيح؟

التاريخ يكتبه المنتصر

"التاريخ يكتبه المنتصرون": هل هذا القول صحيح؟

لطالما سمعنا أن "التاريخ يكتبه المنتصرون"، وكثيرًا ما يُستخدم هذا القول لتبرير فكرة أن التاريخ قد لا يكون دقيقًا أو موضوعيًا. ولكن هل هذا الاعتقاد دقيق؟ أم أن هناك جوانب أخرى يجب علينا مراعاتها لفهم كيفية كتابة التاريخ وتوثيق أحداثه؟


من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل

في رواية "1984" الشهيرة لجورج أورويل، يقول أوبراين لوينستون: "من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل، ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي". هذه العبارة تلخص فكرة أن من يسيطر على السرد التاريخي في الحاضر يملك القوة لتشكيل مستقبل المجتمع. هنا، يطرح السؤال: من يتحكم فعليًا في كتابة التاريخ؟ وهل يكون المنتصر دائمًا هو المؤرخ الوحيد، أم أن هناك روايات أخرى تُحكى من جانب المهزومين؟


هل يكتب التاريخ فقط المنتصرون؟

إذا اعتمدنا القول الشائع بأن التاريخ يكتبه المنتصرون فقط، فسنفترض أن الرواية الوحيدة المتاحة هي رواية المنتصر، ولكن الواقع يشير إلى غير ذلك. صحيح أن المنتصر غالبًا ما يتمتع بفرصة توجيه السرد التاريخي والتأثير على كيفية تدوينه، لكن هذا لا يعني أن الروايات الأخرى تختفي تمامًا.


على سبيل المثال، في التاريخ الأمريكي، سُجلت أحداث استيطان الأمريكيتين من منظور الأوروبيين المنتصرين، ولكن مع ذلك، ظلت روايات السكان الأصليين حاضرة في الأدبيات الشفوية والمكتوبة. بل إننا اليوم نرى محاولات حثيثة لإعادة إحياء تلك الروايات وتصحيح بعض المغالطات التي رُوِّج لها تاريخيًا.


الصراع بين روايات المنتصر والمهزوم

من الصعب طمس الروايات التاريخية الأخرى بشكل كامل، وهذا ينطبق على معظم الحروب والأحداث الكبيرة في التاريخ. فبينما يسعى المنتصر إلى كتابة روايته التي تؤكد على انتصاراته وشرعية أفعاله، غالبًا ما ينجح المهزوم في الاحتفاظ بروايته الخاصة ونقلها للأجيال اللاحقة. 


أحد الأمثلة الشهيرة هو المعركة بين الأسبرطيين والفرس في معركة "ثيرموبيلاي"، والتي رُوّج لها في الثقافة الغربية من خلال أفلام مثل 300. هذه الرواية تم تصويرها على أنها مواجهة بطولية بين 300 جندي فقط، رغم أن الدراسات الحديثة تشير إلى أن العدد الفعلي للجنود الأسبرطيين كان يتراوح بين 5200 و7700. ورغم ذلك، نجد أن الرواية الأسطورية هي التي بقت شائعة في الذاكرة الجماعية، بينما الحقيقة التاريخية أكثر تعقيدًا.


تأثير الحاضر على كتابة التاريخ

التاريخ ليس مجرد سرد لأحداث الماضي، بل يتأثر بالحاضر بشكل كبير. فوجهة نظرنا تجاه أي حدث تاريخي غالبًا ما تتشكل بناءً على الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في الوقت الذي نعيش فيه. هذا ما أشار إليه الشاعر الأمريكي توماس إليوت حين قال: "التاريخ لا يقتصر فقط على أحداث الماضي، فحاضرنا يؤثر على نظرتنا للتاريخ."


لنأخذ مثالًا آخر: شخصية جمال عبد الناصر في العالم العربي. الرأي تجاهه يختلف بشكل جذري بين فترات زمنية مختلفة، حيث كان ينظر إليه في فترة ما كرمز للحرية والوحدة العربية، بينما قد يراه آخرون من منظور أكثر انتقادًا في ضوء الأحداث اللاحقة. هذا التغيير في النظرة يعود في الأساس إلى الظروف الحاضرة التي تؤثر على تفسير الماضي.


التاريخ يكتبه المؤرخون.. وليس المنتصرون فقط

في نهاية المطاف، التاريخ لا يكتبه المنتصرون ولا المهزومون بشكل مطلق، بل يكتبه المؤرخون. هؤلاء يملؤون كتبهم بمزيج من الحقائق والخرافات والتفسيرات الشخصية. فالتاريخ مادة خام قابلة للتشكيل بحسب من يرويها، ولا توجد حقيقة مطلقة، بل توجد تصورات مختلفة عن تلك الحقيقة. هذه التصورات تتأثر بألاعيب العقل والإعلام والحكومات التي تسعى دائمًا إلى تشكيل نظرتنا للماضي بما يتوافق مع مصالحها في الحاضر.


هتلر وستالين: دراسة مقارنة

دعونا نأخذ مثالين من القرن العشرين: هتلر وستالين. يُنظر إلى هتلر على أنه رمز للشر المطلق، بينما قد تكون الآراء حول ستالين أقل حدة رغم أن كليهما ارتكب جرائم فظيعة. السبب في هذا الفارق في التقييم يعود في جزء كبير منه إلى حقيقة أن ستالين كان جزءًا من التحالف المنتصر في الحرب العالمية الثانية، بينما خسر هتلر الحرب. هذا لا يعني أن ستالين كان أفضل، بل يعني ببساطة أن التاريخ يُكتب بطريقة تختلف بحسب من يملك زمام الأمور.


تأثير الحاضر على سرد الماضي

النظرة إلى الشخصيات التاريخية مثل هتلر وستالين تتشكل بشكل كبير من خلال قوى الحاضر. فإذا كان ستالين قد حصل على جوائز نوبل للسلام، فهذا لا يعني أنه كان أكثر أخلاقية من هتلر، بل لأن القوى العالمية التي كانت متحالفة معه بعد الحرب رغبت في تقديمه في صورة إيجابية أكثر.


هذا المثال يوضح أن المنتصرين ليسوا بالضرورة من يكتبون التاريخ أثناء وقوع الأحداث، ولكنهم يتحكمون في كيفية إعادة سرد هذا التاريخ لاحقًا. 


الخاتمة: من يشكل التاريخ حقًا؟

التاريخ ليس سردًا ثابتًا لأحداث وقعت في الماضي، بل هو قصة تُعاد صياغتها وتشكيلها باستمرار من قبل المؤرخين والأشخاص الذين يملكون النفوذ في الحاضر. المنتصر قد يكتب الفصل الأول، لكن الفصل الأخير دائمًا ما يظل مفتوحًا للتعديل والتفسير من قبل أجيال لاحقة. وكما قال جوستاف فلوبير: "لا توجد حقيقة مطلقة، فقط تصوراتنا عنها."

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -